فصل: تفسير الآية رقم (7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (7):

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)}
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} تقدم في الأعراف بيانه والحمد لله {وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ} بين أن خلق العرش والماء قبل خلق الأرض والسماء. قال كعب: خلق الله ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد من مخافة الله تعالى، فلذلك يرتعد الماء إلى الآن وإن كان ساكنا، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: إنه سئل عن قوله عز وجل: {وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ} فقال: على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح.
وروى البخاري عن عمران بن حصين. قال: كنت عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاءه قوم من بني تميم فقال: «أقبلوا البشرى بابني تميم» قالوا: بشرتنا فأعطنا مرتين فدخل ناس من أهل اليمن فقال: «أقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم» قالوا: قبلنا، جئنا لنتفقه في الدين، ولنسألك عن هذا الأمر ما كان؟ قال: «كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شي» ثم أتاني رجل فقال: يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت، فانطلقت أطلبها فإذا هي يقطع دونها السراب، وايم الله لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم. قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أي خلق ذلك ليبتلي عباده بالاعتبار والاستدلال على كمال قدرته وعلى البعث.
وقال قتادة: معنى {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أيكم أتم عقلا.
وقال الحسن وسفيان الثوري: أيكم أزهد في الدنيا. وذكر أن عيسى عليه السلام مر برجل نائم فقال: يا نائم قم فتعبد، فقال: يا روح الله قد تعبدت، فقال وبم تعبدت؟ قال: قد تركت الدنيا لأهلها، قال: نم فقد فقت العابدين. الضحاك: أيكم أكثر شكرا. مقاتل: أيكم أتقى لله. ابن عباس: أيكم أعمل بطاعة الله عز وجل. وروي عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قال: {أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله} فجمع الأقاويل كلها، وسيأتي في الكهف هذا أيضا إن شاء الله تعالى. وقد تقدم معنى الابتلاء. {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ} أي دللت يا محمد على البعث. {مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} وذكرت ذلك للمشركين لقالوا: هذا سحر. وكسرت {إن} لأنها بعد القول مبتدأة. وحكى سيبويه الفتح. {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} فتحت اللام لأنه فعل متقدم لا ضمير فيه، وبعده {لَيَقُولَنَّ} لأن فيه ضميرا. و{سِحْرٌ} أي غرور باطل، لبطلان السحر عندهم. وقرأ حمزة والكسائي {إن هذا إلا ساحر عليم} كناية عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

.تفسير الآية رقم (8):

{وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8)}
قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} اللام في {لَئِنْ} للقسم، والجواب {لَيَقُولُنَّ}. ومعنى {إِلى أُمَّةٍ} إلى أجل معدود وحين معلوم، فالأمة هنا المدة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين. واصل الأمة الجماعة، فعبر عن الحين والسنين بالأمة لأن الأمة تكون فيها.
وقيل: هو على حذف المضاف، والمعنى إلى مجيء أمة ليس فيها من يؤمن فيستحقون الهلاك. أو إلى انقراض أمة فيها من يؤمن فلا يبقى بعد انقراضها من يؤمن. والأمة اسم مشترك يقال على ثمانية أوجه: فالأمة تكون الجماعة، كقوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ} [القصص: 23]. والأمة أيضا اتباع الأنبياء عليهم السلام. والأمة الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به، كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} [النحل: 120]. والأمة الدين والملة، كقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22]. والأمة الحين والزمان، كقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} وكذلك قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] والأمة القامة، وهو طول الإنسان وارتفاعه، يقال من ذلك: فلان حسن الأمة أي القامة. والأمة الرجل المنفرد بدينه وحده لا يشركه فيه أحد، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده». والأمة الأم، يقال: هذه أمة زيد، يعني أم زيد. {لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ} يعني العذاب، وقالوا هذا إما تكذيبا للعذاب لتأخره عنهم، أو استعجالا واستهزاء، أي ما الذي يحبسه عنا. {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} قيل: هو قتل المشركين ببدر، وقتل جبريل المستهزئين على ما يأتي. {وَحاقَ بِهِمْ} أي نزل وأحاط. {ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} أي جزاء ما كانوا به يستهزئون، والمضاف محذوف.

.تفسير الآيات (9- 11):

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)}
قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً} الإنسان اسم شائع للجنس في جميع الكفار. ويقال: إن الإنسان هنا الوليد بن المغيرة وفية نزلت.
وقيل: في عبد الله بن أبي أمية المخزومي. {رَحْمَةً} أي نعمة. {ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ} أي سلبناه إياها. {إِنَّهُ لَيَؤُسٌ} أي يائس من الرحمة. {كَفُورٌ} للنعم جاحد لها، قال ابن الأعرابي. النحاس: {لَيَؤُسٌ} من يئس ييأس، وحكى سيبويه يئس ييئس على فعل يفعل، ونظير حسب يحسب ونعم ينعم، ويأس ييئس، وبعضهم يقول: يئس ييئس، ولا يعرف في الكلام العربي إلا هذه الأربعة الأحرف من السالم جاءت على فعل يفعل، وفي واحد منها اختلاف. وهو يئس و{يئوس} على التكثير كفخور للمبالغة. قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ} أي صحة ورخاء وسعة في الرزق. {بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} أي بعد ضر وفقر وشدة. {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي} أي الخطايا التي تسوء صاحبها من الضر والفقر. {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} أي يفرح ويفخر بما ناله من السعة وينسى شكر الله عليه، يقال: رجل فاخر إذا افتخر- وفخور للمبالغة- قال يعقوب القارئ: وقرأ بعض أهل المدينة {لفرح} بضم الراء كما يقال: رجل فطن وحذر وندس. ويجوز في كلتا اللغتين الإسكان لثقل الضمة والكسرة. قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} يعني المؤمنين، مدحهم بالصبر على الشدائد. وهو في موضع نصب. قال الأخفش: هو استثناء ليس من الأول، أي لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات في حالتي النعمة والمحنة.
وقال الفراء هو استثناء من {وَلَئِنْ أَذَقْناهُ} أي من الإنسان، فإن الإنسان بمعنى الناس، والناس يشمل الكافر والمؤمن، فهو استثناء متصل وهو حسن. {أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} ابتداء وخبر. {وَأَجْرٌ} معطوف. {كَبِيرٌ} صفة.

.تفسير الآيات (12- 13):

{فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13)}
قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ} أي فلعلك لعظيم ما تراه منهم من الكفر والتكذيب تتوهم أنهم يزيلونك عن بعما أنت عليه.
وقيل: إنهم لما قالوا: {لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} هم أن يدع سب آلهتهم فنزلت هذه الآية، فالكلام معناه الاستفهام، أي هل أنت تارك ما فيه سب آلهتهم كما سألوك؟ وتأكد عليه الأمر في الإبلاغ، كقوله: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67].
وقيل: معنى الكلام النفي استبعاد، أي لا يكون منك ذلك، بل تبلغهم كل ما أنزل إليك، وذلك أن مشركي مكة قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أتيتنا بكتاب ليس فيه سب آلهتنا لاتبعناك، فهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدع سب آلهتهم، فنزلت. قوله تعالى: {وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} عطف على {تارِكٌ} و{صَدْرُكَ} مرفوع به، والهاء في {بِهِ} تعود على {ما} أو على بعض، أو على التبليغ، أو التكذيب. وقال: {ضائِقٌ} ولم يقل ضيق ليشاكل {تارِكٌ} الذي قبله، ولأن الضائق عارض، والضيق ألزم منه. {أَنْ يَقُولُوا} في موضع نصب، أي كراهية أن يقولوا، أو لئلا يقولوا كقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] أي لئلا تضلوا. أو لأن يقولوا. {ذَلُولًا} أي هلا {أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يصدقه، قاله عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، فقال الله تعالى: يا محمد {إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ} إنما عليك أن تنذرهم، لا بأن تأتيهم بما يقترحونه من الآيات. {وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي حافظ وشهيد. قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} {أَمْ} بمعنى بل، وقد تقدم في {يونس} أي قد أزحت علتهم وأشكالهم في نبوتك بهذا القرآن، وحججتهم به، فإن قالوا: افتريته- أي اختلقته- فليأتوا بمثله مفترى بزعمهم. {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي من الكهنة والأعوان.

.تفسير الآية رقم (14):

{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)}
قوله تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} أي في المعارضة ولم تتهيأ لهم فقد قامت عليهم الحجة، إذ هم اللسن البلغاء، وأصحاب الألسن الفصحاء. {فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} واعلموا صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَ} اعلموا {أَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} استفهام معناه الأمر. وقد تقدم القول في معنى هذه الآية، وأن القرآن معجز فى مقدمة الكتاب. والحمد لله. وقال: {قُلْ فَأْتُوا} وبعده. {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} ولم يقل لك، فقيل: هو على تحويل المخاطبة من الإفراد، إلى الجمع تعظيما وتفخيما، وقد يخاطب الرئيس بما يخاطب به الجماعة.
وقيل: الضمير في {لَكُمْ} وفي {فَاعْلَمُوا} للجميع، أي فليعلم للجميع {أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ}، قاله مجاهد.
وقيل: الضمير في {لَكُمْ} وفي {فَاعْلَمُوا} للمشركين، والمعنى: فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المعاونة، ولا تهيأت لكم المعارضة {فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ}.
وقيل: الضمير في {لَكُمْ} للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللمؤمنين، وفي {فَاعْلَمُوا} للمشركين.

.تفسير الآية رقم (15):

{مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {مَنْ كانَ} كان زائدة، ولهذا جزم بالجواب فقال: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ} قاله الفراء.
وقال الزجاج: {مَنْ كانَ} في موضع جزم بالشرط، وجوابه {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ} أي من يكن يريد، والأول في اللفظ ماضي والثاني مستقبل، كما قال زهير:
ومن هاب أسباب المنية يلقها ** ولو رام أسباب السماء بسلم

واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: نزلت في الكفار، قال الضحاك، واختاره النحاس، بدليل الآية التي بعدها {أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود: 16] أي من أتى منهم بصلة رحم أو صدقة نكافيه بها في الدنيا، بصحة الجسم، وكثرة الرزق، لكن لا حسنة له في الآخرة. وقد تقدم هذا المعنى في براءة مستوفى.
وقيل: المراد بالآية المؤمنون، أي من أراد بعمله ثواب الدنيا عجل له الثواب ولم ينقص شيئا في الدنيا، وله في الآخرة العذاب لأنه جرد قصده إلى الدنيا، وهذا كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» فالعبد إنما يعطي على وجه قصده، وبحكم ضميره، وهذا أمر متفق عليه في الأمم بين كل ملة.
وقيل: هو لأهل الرياء، وفي الخبر أنه يقال لأهل الرياء: «صمتم وصليتم وتصدقتم وجاهدتم وقرأتم ليقال ذلك فقد قيل ذلك» ثم قال: «إن هؤلاء أول من تسعر بهم النار». رواه أبو هريرة، ثم بكى بكاء شديدا وقال: صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الله تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها} وقرأ الآيتين،. خرجه مسلم في صحيحه بمعناه والترمذي أيضا.
وقيل: الآية عامة في كل من ينوي بعمله غير الله تعالى، كان معه أصل إيمان أو لم يكن، قال مجاهد وميمون بن مهران، وإليه ذهب معاوية رحمه الله تعالى.
وقال ميمون بن مهران: ليس أحد يعمل حسنة إلا وفي ثوابها، فإن كان مسلما مخلصا وفي في الدنيا والآخرة، وإن كان كافرا وفي الدنيا.
وقيل: من كان يريد الدنيا بغزوة مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيها، أي وفي أجر الغزاة ولم ينقص منها، وهذا خصوص والصحيح العموم.
الثانية: قال بعض العلماء: معنى هذه الآية قوله عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات» وتدلك هذه الآية على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان، وتدل على أن من توضأ للتبرد والتنظف لا يقع قربة عن جهة الصلاة، وهكذا كل ما كان في معناه.
الثالثة: ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية مطلقة، وكذلك الآية. التي في الشورى {مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها} [الشورى: 20] الآية. وكذلك {وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها} [آل عمران: 145] قيدها وفسرها التي في {سبحان} {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18] إلى قوله: {مَحْظُوراً} [الإسراء: 20] فأخبر سبحانه أن العبد ينوي ويريد والله سبحانه يحكم ما يريد، وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهماأي قوله: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا} أنها منسوخة بقوله: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ} [الإسراء: 18]. والصحيح ما ذكرناه، وأنه من باب الإطلاق والتقييد، ومثله قوله: {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ} [البقرة: 186] فهذا ظاهره خبر عن إجابة كل داع دائما على كل حال، وليس كذلك، لقوله تعالى: {فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ} [الأنعام: 41] والنسخ في الأخبار لا يجوز، لاستحالة تبدل الواجبات العقلية، ولاستحالة الكذب على الله تعالى فأما الأخبار عن الأحكام الشرعية فيجوز نسخها على خلاف فيه، على ما هو مذكور في الأصول، ويأتي في النحل بيانه إن شاء الله تعالى.